كان الشرق العربي ، في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ، غارقاً في بحر الظلم والظلام ، حين أبصر النور ...
وكان من يتقن الكتابة والقراءة ، شبيهاً بعالم الذرة في يومنا هذا.
كان الجهل مفروضاً على الشعب في ظلّ الحكم العثماني ، فلا مدارس بالمعنى الصحيح ، ولا معاهد للعلم ، ولا كليات ولا جامعات ....بل كتاتيب صغيرة ، تدرّس بعض آيات القرآن الكريم ، وبعض فرائض الصوم والصلاة ... اللهم إلا إذا استثنينا عدداً ضئيلاً منها ...
ورغم هذا كلّه ، ولد الطّفل محمّد كرد علي ، وعشق الكتابة والصحافة ، وأولع بمطالعة الكتب وجمعه .
كان يقرأ ما يستطيع الحصول عليه ، وهو في الثالثة عشرة .
كان يسهر حتى الهزيع الثاني من الليل ، وهو يقرأ في جريدة أو كتاب ، حتى بضعف بصره ، وساءت صحّته ، ونصح له الأهل والصحب بالاعتدال . ولكنه رفض هذا النصح ، ولم يكن ليترك القراءة ، إلا حين يطفئ أهله مصباح الزيت ، الذي كان الناس يستضيئون به يومذاك.
كان منظر الكتب يغريه ويفتنه ، ورؤيا الصحف يسكره ، ويسحره ، فيندفع يغبّ من ألوان المعرفة ، ويعبّ من بحور العلم .
كان إذا رأى عالماً أو أستاذاً ، تمنّى أن يصادقه ، وحلم في أعماقه ، أن يكون في المستقبل مثله .
وشجّعه أبوه - رغم أميته – على اقتناء الكتب ، وقدم له المساعدة الكافية على الفوز بها .. فكانت الكتب ثروته التي لا تفنى ، وكانت كنزه الذي لا يعد له كنز ولا مال .
وحين اشتدّ ساعده بالعلم واللغة ، أخذ يقرأ الصحف والمجلات بالفرنسية والتركية والعربية ، فزادته المطالعة تعلقاً بالصحافة ، وعشقاً للمعرفة والعلم .
وعندما كان يحبو نحو السادسة عشرة ، كان يكتب الأخبار والمقالات ، ويدفع بها إلى الصحف.
ولم تقف هواياته عند هذا الحد ، بل أحب الشعر العربي :، والسجع المنمق ، وعكف على شيخوخه _ كما كان يقول الدكتور سامي الدّهان_ " وأخذ ينهل من علمهم و أدبهم ، وهم من مشهوري عصره في بلده ، أمثال : سليم البخاري ، و الشيخ محمد المبارك ، و الشيخ طاهر الجزائري " .
و تلاقت ثقافة القديم و الجديد في نفس الفتى ، فأحب الكتب الصفر القديمة ، ذات الهوامش و التعليقات والشروح الكثيرة ، وعشق الصحف والمجلات الأجنبية ، التي تجمل أنباء العلم ، على شاطئ البوسفور والسين .
حمع محمد كرد علي المجد من أطرافه ، فعاش في مدرسته الثانوية ، ينهل من العربية على أيدي شيوخه ، ودرس في "العازارية" فنون العلم ... ومن أجل ذلك قيل أن علّامتنا العظيم سبق عصره .
وفي العام 1897 أي عندما كان في ربيعه الحادي عشر ، كانت تصدر في دمشق جريدة تدعى "الشام" لصاحبها مصطفى الشقللي ، وهو مدير مطبعة الولاية ، ومدير إطفاء الحريق ، فعهد إليه أمر تحريرها .
ولبث الأستاذ محمد كرد علي يحرر "الشام" ثلاث سنوات ، أخذ بعدها يراسل مجلّة "المقتطف" المصرية ، فانتقلت شهرته إلى مصر ، بعد الشام ، وذاع صيته في البلدين .
ورحل محمد كرد علي إلى القاهرة ، ولبث فيها شهوراً عشرة ، عمل خلالها في صحافتها ، وتعرف إلى علمائها ، وأدبائها ، ورجال الفكر فيها ، فاتسع أفقه ، وذاع صيته ، وباتت شهرته في مصر ، لا تقل عن شهرة أدباء تلك الفترة وعلمائها الأعلام .
وعاد ثانية إلى مصر ، وعمل في تحرير بعض الصحف ، و أصدر مجلة "المقتبس" الشهرية ، ونشر فيها البحوث العلمية والأدبية والتاريخية.
وكان ينقل عن مجلات الغرب أحدث أنباء العلم والحضارة والاختراع والتّقدم . كما ترجم عدداً من الكتب المخطوطة النادرة ، فجمع بين القديم والحديث .
وعاد محمد كرد علي إلى دمشق ، وقد لجّ به الشوق إلى غوطتها وقاسيونها و برداها . عاد إليها و أصدر "المقتبس " جريدة يومية ، وبالتعاون مع أخيه أحمد ، بعد أن أسس لها مطبعة خاصة . غير أن السلطة العثمانية ضايقته ، وحاربته ، ولاحقته ، وأغلقت جريدته .. ولا يلاحق الأحرار ، ولا يغلق الصحف ، إلا كل عدو للفكر والكلمة الحرة . فاضطر للفرار إلى فرنسا . وفي باريس زار مجمعها العلمي ، ووقف في بهوه وساءل نفسه :
-"هل يكتب لنا في المستقبل تأليف مثل هذه المجامع ، فنعمل فرادى أو مجتمعين كالغربيين ، أم نظلّ كما نحن ، لا نعمل فرادى ، ولا مجتمعين ؟ "
وكان هذا بدء تفكيره في تأسيس المجمع العلمي العربي بدمشق .
وحين سقطت دمشق في أيدي الحلفاء ، وزالت عهود التخلف والظلام ، وقام العهد الفيصلي الهاشمي ، وجد العلّامة الراحل الفرصة سانحة لتحقيق الحلم الذي لطالما راوده ، ألا وهو إنشاء محمع علمي عربي ، على غرار ما تفعله الأمم المتحضرة ، لحفظ تراثها ، وصون لغتها ، ونشر آدابها وعلومها ، وعرض الفكرة على الحاكم العسكري رضا باشا الرّكابي ، فوافق على قلب ديوان المعارف ، برئيسه وأعضائه مجمعاً علمياً . وكان الراحل الكبير رئيسا لهذا الديوان ، وقد تم ذلك في الثامن من حزيران عام 1919 . وظل "الأستاذ الرئيس " رئيساً للمجمع ، إلى أن أغمض جفنيه ، قبل ثلاثة وعشرين عاماً .
يقف محمد كرد علي في المكانة الأدبية والعلمية ، بين أنداده الأعلام العرب : طه حسين ، و عباس محمود العقاد ، والإمام محمد عبده . فقد بلغت مؤلفاته التي تركها اثنين وعشرين كتاباً ، جاوزت صفحاتها عشرة آلاف صفحة ، عدا مجلته العلمية الرّاقية "المقتبس" ، التي جاوزت صفحاتها ستة آلاف صفحة .
كان حركة لا تهدأ في الكتابة والتأليف ، وظلّ حتى سنوات عمره الأخيرة ، يتمتع بنشاط أبناء العشرين ، وذكائهم ، وحيويتهم ، وذاكرتهم .
جمع بين الصحافة والجامعة ، والوزارة ، والمجمع العلمي العربي بدمشق ، والمجمع اللغوي في مصر ..
وكان يعشق دمشق ويهيم بغوطتها ... وقد وضع عن الغوطة كتاباً يعتبر خير ما كتب عنها حتى الآن .
أما المجمع العلمي ، فقد كان عنده أغلى من فلذة كبده ..
وهبه كل حياته ، وكل نشاطه ، ووهب مجلته كل جهده وعبقريته ، ولم يكن ليتخلف عن التردد على المجمع إلا لسفر ، أو مرض ، أو أمر طارئ ... ومن أجل ذلك ظل المجمع – رغم تبد العهود والظروف – الصرح العلمي الراسخ ، الذي ينحني أمامه جميع الحكام ، ويفخرون برعايته ، ودفع رسالته إلى الأمام.
كان محمد كر علي إماماً في الصحافه ، وحجة في التحقيق ، وعلماً في الكتابة والتأليف ، وزعيماً من زعماء القلم والفكر في الوطن العربي .
وكان أول من أنشأ جريدة أو مجلة راقية في دمشق.
وكان أول من أسس مجمعاً علميّاً في بلاد العرب ، ثم تلاه مجمع اللغة العربية ، ثم بعض المجامع الأخرى في عدد من بلدان الوطن العربي .
أما أسلوبه ، فهو الذي وصفوه بالسهل الممتنع .. إنه رقيق في التعبير ، بليغ اللفظ ، الكلمات فيه على قدر المعاني ، والجمل تطول حيناً ، وتقصر حيناً آخر ، وهو في جميع الأحوال لا يتكلف ، ولا يتصنع ، بل يرسل كلماته على سجيتها ، ويهدف إلى التركيز على المعنى ، دون أن يعطي كبير الاهتمام للمبنى . إنه نثر العالم المفكر ، لا الأديب الذي تغريه الصنعة ، ويسيطر عليه الأسلوب والمظهر .
ويتجلى أسلوبه هذا ، في جميع كتبه ومقالاته .... غير أن القلم يجمع به أحياناً ، فيشتط الخيال ، ويطيب له بالصنعة والعبارة ، فيكثف جمله وعباراته ويختصر في ألفاظه و كلماته . ومثل هذا فعله في كتابه " المذكرات " ولا سيما حين تحدّث عن الشباب ، ويصف الشيخوخة ، ويتوقع الرحيل ، فيحاسب نفسه دون هوادة. لنستمع إليه يقول
" يا نفس لا تغضبي ، ولا تعتبي ، فقد عمّرت طويلاً، ومتّعت كثيراً ، وفتنت بجمال الوجود ، وجلال الطبيعة ، وهمت بصنع الخالق والمخلوق ، واستكثرت من الخلان والمعارف ، وسعدت ، إذ كنت أقرب إلى التفاؤل من التشاؤم ، وإلى الرجاء أدنى من القنوط ، وإلى السرور أكثر من الغم . وعشت في سلطان الرضا طيبة الطعمة ، لا يد لأحد عندك . "
ويعتبر كتابه " خطط الشام " أبرز آثاره ، وأضخم أعماله ، فقد أنفق في تأليفه خمسة وعشرين عاماً ، وطالع خلالها نحو ألف ومئتي مجلد ، بالعربية والفرنسية والتركية . وقد تحدث فيه عن تاريخ الشام وحضارتها على مر العصور والأزمان .
وقد أحب علامة الشام غوطة دمشق . أحبها حتى العشق والهيام ، وأقام فيها ستين سنة في أرضه التي ورثها عن أبيه في قرية "جسرين" ، وعاشر أهلها و ألفهم ، حتى قيل أنه كان فلاحاً منهم ، إذ كان يشاركهم فرحهم وحزنهم . وباتت الغوطة بالنسبة إليه –كما يقول- "أحب بقعة إلى قلبه في الأرض" . ومن أجل ذلك وضع كتابه النفيس "غوطة دمشق" فأرّخ الغوطة ، وتحدث عنها ، وتغزل بها غزل عاشق هيمان ، فكساها ثوباً من الجمال ، أضافته إلى سحرها . ورد الجميل إلى الأرض الطيبة ، التي أحالت دمشق ، من صحراء قاحلة ، إلى جنة وارفة الظلال .
وحين توقف القلب الكبير ، قلب العلامة محمد كرد علي عن الخفقان ، يوم الخميس الثاني من نيسان عام 1952 ، خرجت دمشق بشيبها وشبانها في مأتمه ... وشيعه علماؤها ، ورجال القلم والفكر فيها ، ودفن بجوار قبر معاوية بن أبي سفيا ، الذي أحب دمشق أيضاً ، وعمل من أجلها ، وأسس دولة بني أمية فيها ، ورفق رايتها خفّاقة عالية .
وعلى القبر ، وقف الأديب العالم الدكتور منير العجلاني ، ورثاء ، وقال كلمته المشهورة :
"إنّ ثمة إمارتين معقودتين في العالم العربي : إمارة الشعر ، وكانت معقودة اللواء للمرحوم أحمد شوقي ، وإمارة العلم ، وكانت معقودة اللواء لفقيدنا العلامة "محمد كرد علي " ...
من كتاب "عبقريات شامية "
ل"عبد الغني العطري"
1986 م...